"ماذا سأفعل الآن؟ ماذا سأفعل/ سوف أنطلق خارجة كما أنا، وأذرع الشارع/ وشعري منسدل، هكذا.
ماذا سنفعل غداً/ ماذا سنفعل أبداً؟". ت. س. إليوت
تواجهنا أسئلة عديدة منذ إصابة العالم بجائحة فيروس كورونا (كوفيد - 19)،
منها ما هو واقعي عملي، ومنها ما هو فلسفي كوني:
هل نحن في عالم حقيقي أم عالم افتراضي؟
هل سوف نعود إلى حياتنا التي اعتدناها يومأ؟ عملنا المهني؟ علاقاتنا العائلية؟ علاقاتنا مع الأصدقاء؟
هل سوف توحِّدنا الجائحة؟ أم تزيدنا اغتراباً ووحدة وانقساماً وفردية؟
ماذا سنفعل اليوم؟ غداً؟
ماذا سنفعل أبداً؟
*****
أول هذه الأسئلة الملحّة: هل ما نعانيه اليوم هو من جرّاء سياسات الأمس؟
أومن بأن معاناتنا اليوم هي نتيجة لسياسات الأمس؛ السياسات العنصرية، والظلم، والإرهاب، واللامساواة، والإفلات من العقاب، وانتهاك حقوق الإنسان وحرياته الأساسية؟
تلك السياسات التي لا تبالي بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للإنسان، ولا تضمن له بالتالي العيش بكرامة، مثل: التعليم، والبيئة الصحية، والعمل، والثقافة، والضمان الاجتماعي، والغذاء، والمياه، والسكن؛ هذه الحقوق، التي يتيح تحقيقها الوحدة بين الناس جميعاً، من كل الأعراق، والديانات، والمشارب السياسية، والخلفيات الاجتماعية والاقتصادية، بما يضمن الحرية والكرامة للبشر جميعاً.
تلك السياسات التي تستبدل تكريس ميزانيات للمعرفة والأبحاث العلمية، - التي يمكن أن تصل إلى علاج يحارب الأوبئة والأمراض المستعصية- بميزانيات كبيرة لصناعة السلاح، والاتّجار به، وتلويث البيئة، ونشر السموم الكيماوية.
وما ارتفاع نسبة النفقات العسكرية العالمية عام 2019 بنسبة 4 بالمئة - في أكبر زيادة تسجل منذ نحو عشر سنوات – بناء على المعلومات التي كشف عنها التقرير السنوي للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن؛ سوى دليل على أن أولويات العديد من دول العالم لا تشمل حرية الإنسان ولا صون كرامته.
وخير مثال على أولوية الإنفاق على صناعة السلاح، والاتّجار به؛ ما تنفقه دولة الاحتلال الإسرائيلي، التي توظّف احتلالها لفلسطين كأفضل استثمار لتجارتها بالأسلحة، وللترويج لها كأسلحة مجرَّبة.
وإذا كانت دول العالم تنفق مبالغ باهظة على العسكرة، فهل تختلف عنها الدول العربية؟
كشفت الدراسة التي أصدرها مركز الدراسات الاستراتيجية الدولية، في واشنطن، عام 2018؛ أن "دول المنطقة من أعلى دول العالم إنفاقا على أمنها، إذا تنفق في المتوسط 6% أو أكثر من دخلها السنوي على الدفاع".
ورغم أن البشر جميعاً؛ يواجهون عدواً مشتركاً لكل الشعوب؛ لكن هل يعانون جميعاً بالقدر نفسه، وخاصة في ظل العسكرة والنزاعات المسلحة التي تعمّ العالم، وفي ظل الاحتلال الإسرائيلي الاستيطاني التوسعي لأرض فلسطين؟
لا شك أن من يدفع الثمن أكثر من غيره هي الشعوب التي تقع تحت براثن الاحتلال، والاستعمار، والفئات المجتمعية التي تعاني من التمييز، واللامساواة، والظلم، والفقر؛ النساء، والأطفال، واللاجئون، والأشخاص ذوو الإعاقة، وذوو الدخل المحدود، والمهمّشون والعاطلون عن العمل.
*****
سؤال ملح آخر: هل يكفي أن تنفق دول العالم النيوليبرالية على الرعاية الصحية والبحث العلمي؛ أكثر مما تنفق على العسكرة؛ لضمان الخلاص من الأوبئة، وتحقيق بيئة صحية تليق بكرامة الإنسان؟
ثبت بالدليل القاطع أن ذلك لا يكفي؛ لأن الولايات المتحدة الأمريكية، قد سجلت أعلى نسبة وفيات في العالم جرّاء فيروس "كورونا" المستجد، وذلك من خلال مقارنة عدد الضحايا مع حالات الإصابة المؤكدة المبلغ عنها، وأعلى عدد من الإصابات بالفيروس في العالم "وفق إحصاء يستند إلى بيانات جمعتها صحيفة نيويورك تايمز، بتاريخ 26 آذار 2020"؛ على الرغم من أنها تصدّرت دول العالم في الإنفاق على الرعاية الصحية للأفراد، واحتلت المرتبة الأولى عالمياً في الإنفاق على البحث العلمي.
لا يكفي الإنفاق على التعليم والبحث العلمي، في ظل دولة لا يوجد فيه نظام موحد للرعاية الصحية، ولا يغطي جميع السكان. دولة تمارس العنصرية، والتمييز، وخطاب الكراهية، ضد الأقليات، والنساء، والمسلمين، والمهاجرين، كما شهدنا في تصريحات وتغريدات رئيس الولايات المتحدة الأمريكية؛ إذ يرتبط الحق في البيئة الصحية مع حقوق أخرى أساسية من حقوق الإنسان؛ الحق في عدم التمييز، والحق في الوصول إلى المعلومات، ومنع التعذيب.
*****
ثمة تغييرات طرأت على سلوك البشر، بتفاوت بسيط، في معظم دول العالم، أثناء انتشار جائحة كورونا، ولكن هل تستمر هذه التغييرات بعد كورونا؟
توقع الكثيرون أن يستمر العمل من البيت، وأن يلجأ الناس إلى تخفيف التواصل الإنساني المباشر، وأن يزدياد استخدام الوسائل التقنية للترفيه عن النفس، ووسائل التسوق الإليكتروني.
السؤال الأصعب، يتعلق بالسياسات: ماذا عن التغييرات السياسية والاجتماعية والثقافية، التي تستدعيها المرحلة؟
هل تغلِّب دول العالم الأمان الإنساني على الأمن العسكري؟
هل تستبدل ثقافة الخلاص الفردي بثقافة الخلاص الجماعي؟ وسياسة التمييز بسياسة التعددية الثقافية والاجتماعية؟
هل تعود للاحتكام لمبادئ حقوق الإنسان العالمية؟ بدلاً من قانون القوة وشريعة الغاب؟
هل نأمل ببناء اقتصاد عادل، في خدمة الجميع، ونظام اجتماعي يوفر رعاية صحية شاملة للجميع؟
لا مفرّ من تعاون البشر، نساء ورجالاً، على اختلاف جنسياتهم، وأعراقهم، ودياناتهم، لبناء مجتمعات آمنة، وبيئة مناخية آمنة؛ خالية من التدمير، والعنف، والتمييز، والتهجير، وأشكال العنصرية كافة، والاحتلال، والاستعمار بأشكاله المباشرة وغير المباشرة.
*****
هل كان ضرورياً أن نتعرّض لعدوان الفيروس الشرس كي نصحو؟ ونعيد حساباتنا وأولياتنا؟ أيّ ثمن باهظ سوف تدفعه البشرية! أي ثمن!