يعيش الطفل الفلسطيني ظروفاً لا إنسانية، تحرمه أبسط حقوقه، التي كفلتها القوانين والأعراف الدولية: حقه في حياة حرة كريمة، حيث يتعلم، ويتمتع بصحة بدنية ونفسية جيدة، وحيث يلعب ويشارك في نشاطات فنية وثقافية، ويتمتع بأمان عاطفي وذهني، يتيح له نمواً عقلياً سليماً، ويتيح له مجالاً للإبداع.
نوقشت معالم هذه الخصوصية، ضمن المحور الخاص، بهوية الطفل العربي في إطارها القومي والعالمي، ضمن جلسات مؤتمر “الطفل العربي في مهب التأثيرات الثقافية المختلفة”، الذي نظمه المجلس العربي للطفولة والتنمية، في 25-27 أيلول 2005، بالتعاون مع مكتبة الإسكندرية، وهيئات دولية وعربية متعددة، مثل هيئة المعونة السويدية، واليونيسيف، والإيسيسكو، واليونيسكو، وجامعة الدول العربية.
رصدت مناقشات المؤتمر، التأثيرات الثقافية، التي تهب على الطفل العربي، من كل اتجاه، وحاولت تحديد طبيعتها، ومستوى فاعليتها، وتشكيل الواقع الاجتماعي والثقافي للطفل العربي، والوزن النسبي للمؤثرات الثقافية، ودورها في تشكيل وعي الطفل العربي، ثم رصدت الأوراق، الظواهر والمشكلات، التي بدأت بالتأثير، على واقع الطفل العربي، بفعل هذه المؤثرات، أو بتأثير واقع المجتمع العربي. وجرى تقييم للسياسات العربية، على المستوى العربي والقطري، فيما يتعلق بإشباع حاجات الطفولة، بما يعمل على تأكيد هويتها وتعميق انتمائها، وقارنت بين هذه السياسات، وحقوق الطفل، التي وردت في الوثائق العربية والعالمية.
وقد هدف المؤتمر، إلى بلورة رؤية مستقبلية، تمكن من تنمية أوضاع الطفل العربي الإيجابية، وترسم سياسات تساهم في هذه التنمية، وتعمل على الحد من السلبيات، التي تتصل بمشكلات الطفل العربي.
نوقشت قضية الطفل الفلسطيني، ضمن جلسة ركزت على هوية الطفل العربي في ظروف استثنائية، مثل ظروف أطفال المهجر، والطفل العراقي، والسوداني، والصومالي، والفلسطيني.
برزت من خلال الندوة بعض القضايا، التي يجدر طرحها للحوار، وعلى رأسها قضية الهوية:
ماذا نقصد حين نردد كلمة الهوية؟ وما هي هويتنا الثقافية؟ وهل توجد لنا كأمة عربية هوية ثقافية واحدة؟ وهل توجد لدينا ثقافة أم ثقافات؟ وهل يضيرنا تعدد الثقافات أم يغنينا؟ وكيف ننظر إلى الآخر المختلف عنا؟ هل نقبل وجود الآخر المختلف ونحاوره، أم نرفض وجوده ونقصيه؟
تبنيت في ورقتي المقدمة إلى المؤتمر، الثقافة بمعناها الواسع، من حيث هي: مجموع السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية، التي تشكل المجتمعات، أو الفئات الاجتماعية، والتي تشمل: الفنون والآداب، وطرق الحياة، وكذلك الحقوق الأساسية للإنسان، بالإضافة إلى نظم القيم والتقاليد والمعتقدات. وعلى هذا الأساس، ومن خلال هذا المنظور، تناولت موضوع هوية الطفل الفلسطيني الثقافية.
قارنت ما بين حقوق الطفل، التي وردت في وثيقة حقوق الطفل الدولية، وما بين واقع حال الطفل الفلسطيني، من خلال الأرقام والحقائق العلمية، المستقاة أساساً من إحصائيات الجهاز الفلسطيني المركزي، ومصادر علمية أخرى، حيث تحدثت المقارنة والأرقام العلمية عن نفسها، وأعطت دليلاً دامغاً على الواقع المر، الذي يعيشه أطفال فلسطين.
أما ما يتعلق بلغة الطفل وعلاقتها بالقيمة الثقافية؛ فمن الملاحظ تأثر لغة الطفل الفلسطيني بمفردات من اللغة العبرية، تلك المفردات التي يستخدمها في خطابه، والتي تعكس هموم الاحتلال، التي تتعدى الاحتلال العسكري إلى ما هو أخطر، وهو الاحتلال الثقافي.
كما نجد انعكاساً للوضع الاقتصادي المتردي على القيم الثقافية، حين تضطر العديد من الأسر إلى الاستغناء، في كثير من الأحيان، عن قراءة الصحف اليومية، وعن شراء الكتب، أو حضور أفلام ومسرحيات ثقافية. وتصبح الثقافة رفاهية بدلاً من أن تكون حاجة أساسية من حاجات الأطفال.
أما مدارس الأطفال، التي تعرضت إلى الدمار، بعد الاجتياحات المتكررة للجيش الإسرائيلي، والمسافة التي يضطر العديد من الأطفال، وفي سن مبكرة من قطعها يومياً، للوصول إلى المدارس، فقد أدت إلى التسرب من المدارس أحياناً، خاصة بالنسبة للفتيات، اللواتي يخاف الأهل عليهن، من حوادث الطرق، ومن جنود الاحتلال الإسرائيلي. الأمر الذي يترك تأثيرات ثقافية خطرة، مثل ارتفاع نسبة الأمية الأبجدية، وارتفاع نسبة الزواج المبكر.
هذا بالإضافة إلى ظاهرة عمالة الأطفال، حيث يدخل بعضهم سوق العمل، التي تتسبب في انتشار ثقافة الكذب والفوضى والاحتيال، التي تصبح جزءاً لا يتجزأ من حياة الأطفال.
كما يؤدي الاكتظاظ السكاني، والحالة الاقتصادية المتردية، وافتقار السكن الصحي المناسب للأسر الفلسطينية، إلى آثار ثقافية سلبية على الأطفال، ومشاكل احتماعية مدمرة، مثل: سفاح القربى.
ويتعرض الأطفال الفلسطينيون بشكل دائم، إلى ألوان متعددة من العنف، منها العنف اللفظي، ومنها العنف الجسدي. وتلعب الأوضاع السياسية الصعبة، والأوضاع الاقتصادية المتردية، دوراً كبيراً في تنامي هذا العنف في المجتمع.
يعمد الأطفال الصغار إلى تقليد المحتل، في عنفه، فيمثلون دور الجندي والضحية، ويبتكرون سلاحاً يشبه سلاحه، ويستخدمون مفردات مشابهة لمفرداته. هذا التمثيل الذي يشكل خطراً فعلياً على حياتهم من ناحية، وخطراً على قيمهم الثقافية من ناحية أخرى.
أما الاجتياحات، ووسائل التنكيل المتعددة، التي يمارسها جيش الاحتلال الإسرائيلي، فتترك آثاراً نفسية عميقة لدى الأطفال الفلسطينيين، وأهم الآثار النفسية، التي تؤثر على القيم الثقافية، هي الإحساس بأن الأسرة لم تعد تشكل حماية لأطفالها، ولم تعد تشكل مصدر أمان واطمئنان؛ إذ إن الجنود يعمدون إلى طرق عديدة، لإذلال الآباء والأمهات أمام أطفالهم، ليس فقط حين الاعتقال أو مداهمة البيوت؛ بل أيضاً في الحياة اليومية، وعلى الحواجز بالتحديد.
وتشكل طوابير الانتظار على الحواجز، صيفاً شتاء، معاناة يومية قاسية للأطفال، وتؤخر تحصيلهم الدراسي، وتقربهم من ثقافة العنف، والتمرد، واللامبالاة، والسوداوية.
وقد تتبعت بعض الدراسات العلمية، آثار النتائج النفسية والسلوكية، للعدوان الإسرائيلي على الأطفال الفلسطينيين، حيث تبين اتجاه متزايد للعنف، وعدم انتظام النوم، والتبول اللاإرادي، وصعوبات في التكلم، وتزايد العمالة (للأطفال)، وزواج الفتيات المبكر، وغيرها من المشاكل لأولئك في سن المراهقة.
ويترك اعتقال الأطفال أثراً بالغاً على القيم الثقافية، إذ ينتج عن اعتقال الطفل الفلسطيني، بالطريقة العنيفة اللاإنسانية؛ أثراً ثقافياً مدمراً عليه؛ فهو يستبدل الضحك، واللعب، والانطلاق؛ بالعزلة، والشك، والحذر. يتدمر عالم الأطفال البريء بالتدريج، وبشكل منهجي، الأمر الذي يجعله يواجه حياة مليئة بالخوف، خالية من أي حافز للإبداع والبناء.