كبر شعب قطاع غزة في ظل النكبة الأولى، والنكبة الثانية،
كبروا في ظلّ حصار خانق، وعزلة خانقة،
في ظلّ استعمار احتلالي إسرائيلي عنصري، يقتل ويدمّر ويشرّد ويعتقل ويرتكب جرائم ضد الإنسانية مراراً وجهاراً؛ ضارباً عرض الحائط بالقانون الدولي، والقانون الإنساني الدولي؛ دون حساب أو عقاب.
كبروا في ظلّ عدوان إثر عدوان؛ على منازلهم، ومدارسهم، ومساجدهم، وكنائسهم، ومياههم، وكهربائهم، ومستشفياتهم، وأشجارهم، ونباتاتهم، ومنتزهاتهم، وعلى حريتهم في الحركة، وفي التعليم، والعمل، والسفر، واللعب؛ على حقهم في الحياة،
وحين طفح الكيل قاوموا؛ اقتحموا، وردّوا، وأوجعوا، وأطلقوا صرخة مدوّية: "غضب الأقصى وأمتنا يتفجّر اليوم".
اشتبكوا بأسلحتهم المتواضعة مع الجيش المدجَّج بالسلاح، والذي يمتلك أحدث الأسلحة وأكثرها تطوراً، في عملية نوعية أطلقوا عليها "طوفان الأقصى"، في ردّ على عربدة الاحتلال المتواصلة، في المسجد الأقصى، وعلى اعتداء المستوطنين الإسرائيليين على الفلسطينيين، في القدس والضفة والداخل المحتلّ.
أطلقوا آلاف الصواريخ، واقتحموا براً وبحراً وجواً، ليفجّروا أجزاء من السياج الحدودي مع قطاع غزة، وهاجموا المواقع العسكرية القريبة من القطاع، والمستوطنات الإسرائيية المحيطة، وأسروا عدداً من الجنود، ونقلوهم إلى قطاع غزة، كما استولوا على بعض الآليات العسكرية الإسرائيلية.
أرادوا أن يقلبوا المعادلة؛ فقلبوها، وسلاحهم إيمانهم بقضيتهم العادلة، وحقهم، وثقتهم بقدراتهم من جانب، وعظمة شعبهم، من جانب آخر.
*****
ما حدث يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023؛ كان وسيبقى علامة فارقة في التاريخ المعاصر، وبشكل خاص، في تاريخ الثورة الفلسطينية، وتاريخ ثورات الشعوب المقهورة، التي تناضل من أجل حريتها.
برز التخطيط المحكم من "كتائب عز الدين القسام"، وفصائل المقاومة الفلسطينية: اختيار الزمان (الأعياد اليهودية، وحلول الذكرى الخمسين لحرب أكتوبر عام 1973، وتفكّك الحكومة الإسرائيلية، بعد الانتخابات الإسرائيلية عام 2022 ، وتفكّك الأجهزة الأمنية) والمكان (الأراضي المحتلة عام 1948، والمستوطنات الإسرائيلية في منطقة غلاف غزة، التي تمتد على طول الحدود البرّيّة للقطاع)، وبرز عنصر المفاجأة، والتدريب العسكري العالي، الذي تضمّن عملية اختراق السياج الأمني، والانتشار في المدن والبلدات والمستوطنات الإسرائيلية، المجاورة لقطاع غزة، وتبيّنت القدرة على التصنيع المحلي، وتطوير الخبرات؛ رغم الحصار والعزلة المفروضة على القطاع، كما ظهرت بسالة رجال المقاومة الفلسطينية.
*****
ما الذي دعى عدد من المحلّلين، ومراكز الأبحاث، إلى اعتبار أن الإخفاق الإسرائيلي يوم 7 أكتوبر 2023، الذي أحدث صدمة كبيرة لدى الإسرائيليين؛ قد تفوّق على الإخفاق الإسرائيلي يوم 6 أكتوبر، عام 1973؟ وبالذات حين عبر الجيش المصري خط بارليف، مع أن "حالة الحرب" التي أعلنتها إسرائيل، بعد عملية "طوفان الأقصى"؛ هي ذاتها التي أعلنتها، قبل خمسين عاماً، بعد مفاجأة يوم 6 أكتوبر 1973، - حتى أن الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي "جيورا إيلاند" قد صرّح: "يبدو الأمر مشابهاً تماماً لما حدث في ذلك الوقت"- كما أن المفاجأة، ودقة التخطيط، والبسالة، هي ذاتها، بالإضافة إلى أن عدد القتلى في حرب 6 أكتوبر، التي استمرّت ثلاثة أسابيع – 2700 قتيلاً– كان أكثر بكثير من عدد القتلى يوم 7 أكتوبر، - بالتقدير 300 قتيلاً -.
الفارق كما هو واضح؛ أن المواجهة عام 1973 كانت مع جيوش نظامية، تملك قدرات عسكرية كبيرة، بينما المواجهة في عملية "طوفان الأقصى"، كانت بين جيش يصف نفسه بأنه لا يقهر، وبين فصائل مقاومة تملك أسلحة وإمكانيات عسكرية متواضعة، وتعيش في ظل إغلاق وحصار وعزلة عن العالم.
تبيّن بالملموس ضعف المنظومة الأمنية الإسرائيلية، والمعلومات الاستخبارية، والجدار الذكي، الذي تمّ اختراقه، رغم تزويده بأحدث التقنيات التكنولوجية، بالإضافة إلى أن المقاومة استخدمت الطائرات الشراعية بدائية الصنع "تراكترون الطائر" – مصمّمة من أعواد خشبية وحديدية، ونظام التوجيه فيها يعمل بالحبال، ومحرّكها بدائي، يشبه محرّك الدراجات النارية -، التي مكّنتها من تضليل منظومة "القبة الحديدية" الدفاعية الإسرائيلية، والتسلّل إلى الشواطئ، والنزول في المستوطنات الإسرائيلية، دون أن تكشفها أجهزة الرادار، أو الكاميرات الحديثة.
كما أن وسائل التواصل الاجتماعي، التي لم تكن متاحة عام 1973؛ أصبحت اليوم متاحة بكثافة، لتنتشر صور وفيديوهات ووثائق تبيِّن تفاصيل ما حدث، وأسباب ما حدث؛ مما جعل العالم بأسره يرى ويسمع ويرقب رغم أنفه.
*****
يا لهذا الشعب العظيم! الذي يعاني ويتحمّل ويقاوم في آن منذ سبع وخمسين حولاً.
معاناة تهدّ الجبال؛ تطهير عرقي، وجرائم ضد الإنسانية، بدأت منذ عام 1947، ولم تنته حتى اليوم.
ومقاومة عنيدة تتعدّد أشكالها وتتجدّد؛ مقاومة عسكرية، ومقاومة شعبية، بدأت مع بدايات القرن الماضي، ولم تنته بحصول الفلسطينيين على شبه دولة، ولن تنتهي سوى بإنجاز الاستقلال الوطني والعودة.