في ذكرى اليوم العالمي للأرشيف؛ 09 حزيران/يونيو، الذي أطلقته اليونيسكو والمجلس العالمي للأرشيف، والذي تحتفل به دول العالم، منذ اثني عشر عامًا، وفي ظلّ الذكرى السابعة والخمسين لهزيمة عام 1967، والذكرى السادسة والسبعين للنكبة الفلسطينية الأولى عام 1948، وبعد مرور ثمانية أشهر على حرب الإبادة الجماعية في غزة – التي شهدت مواصلة التدمير الممنهج لوثائق وأرشيفات ومقتنيات الشعب الفلسطيني التاريخية والاجتماعية والثقافية - تشتدّ الحاجة ليس إلى المحافظة على وثائقنا وأرشيفاتنا بالاستعانة بأحدث الوسائل الرقمية فحسب؛ بل إلى صناعة مصادرنا التاريخية أيضًا.
وهذا ما حفز "المجلس الدولي للأرشيف" أن يختار عنوانًا دالًا، جرى الاحتفال وفقه عام 2022: "نحن الأرشيف"، كما حفز مركز التراث العربي، التابع لمعهد الشارقة للتراث، أن يعقد ندوة بمناسبة "اليوم العالمي للأرشيف"، تحت شعار: "أنت الأرشيف".
*****
نعم؛ نحن الأرشيف، نحن الذين نبني/نؤسِّس أرشيفاتنا، ثم نحقِّقها ونحفظها. نحن الأرشيف السمعي والبصري؛ الذي يمشي على قدمين، وينظر بعينين، ويسمع بأذنين. نحن أرشيف الناس وما عايشوه يوميًا؛ نحن التاريخ الاجتماعي.
نحن شهود العيان على التطهير العرقي المتواصل للفلسطينيين، منذ عام 1947، وعلى نهب وسرقة عشرات الآلاف من الكتب، والصحف، والمجلات، والسجلات المدنية، وآلاف الأفلام، والتسجيلات الصوتية، والخرائط، وملايين الصور الفوتوغرافية، والتي حفظت ضمن الأرشيفات الإسرائيلية، منذ عام 1948.
نحن الشهود على هزيمة حزيران/مايو 1967،
نحن الشهود على العدوان المتواصل على غزة، عام 2008- 2009، و2012، و2014، و2019، و2021، و2022، وعلى حرب الإبادة الجماعية، منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023،
نحن الشهود على المجزرة تلو المجزرة، والقتل، والخطف، والاغتيال، والاعتقال، وهدم البيوت، ومصادرة الأراضي، وخنق مقوِّمات الحياة كافة، على امتداد أرض فلسطين.
نحن الشهود على قتل وجرح أكثر من مائة وعشرين ألف فلسطيني، منهم اثني عشر ألف طفل في قطاع غزة، نحن الشهود على قتل حوالي أربعة أطفال كل ساعة، والشهود على حياة سبع عشرة ألف طفل يعيشون دون أحد والديهم أو كليهما، وعشرة آلاف طفل يفقدون كل يوم أحد الأطراف.
نحن الشهود على قصف مراكز الإيواء، والأبراج السكنية، والمنازل على رؤوس ساكنيها،
نحن الشهود على حرق مخيمات النازحين في رفح، وعلى تهجير نحو مليون نسمة من رفح،
نحن الشهود على حرب التجويع والتعطيش، وعلى التدمير والنهب والحرق، الذي طال أراضي غزة الزراعية ومنتجاتها، ومنشآتها الصناعية، ومرافقها الطبية، وميناءها القديم.
نحن الشهود على تدمير متاحف غزة، وأماكنها التراثية الثقافية؛ "متحف القرارة الثقافي"، و"جمعية حكاوي للمسرح"، و"قرية الفنون والحرف"، و"سوق الزاوية التاريخي"، و"بيت/قصر السقا الأثري"، و"مكتبة الشروق"، و"مكتبة انعيم"، و"مكتبة سمير منصور"، و"مكتبة النهضة"، و"مكتبة لُبّد"، و"المركز الثقافي الأرثوذوكسي"، و"جمعية ميلاد" في مخيم جباليا، و"المركز الثقافي الاجتماعي العربي" في تل الهوا.
نحن الشهود على تدمير وإعدام آلاف الوثائق التاريخية، في مبنى "الأرشيف المركزي" بمقرّ بلدية غزة، ومكتبة "مركز رشاد الشوا الثقافي"، و"مكتبة ديانا تماري صباغ"، و"مكتبة جامعة الإسراء"، و"المتحف الوطني".
نحن الشهود على تدمير معالم غزة الأثرية التاريخية؛ "قصر الباشا"، و"سوق القيسارية، و"المسجد العُمَري الكبير"، و"مسجد السيد هاشم"، و"سبيل السلطان عبد الحميد"، في حي الدرج، وقصف وتدمير "جامعة الأزهر"، و"الجامعة الإسلامية"، وتدمير "مركز جمعية أبناؤنا للتنمية"، و"مركز غزة للثقافة والفنون"، وقصف وتدمير الحديقة و"النصب التذكاري للجندي المجهول"، في حيّ الرمال، وتدمير ثالث أقدم كنيسة في العالم؛ "كنيسة القديس برفيريوس"، في حي الزيتون.
نحن الشهود على قصف "متحف العقاد" في خان يونس، و"مسجد جباليا".
*****
في مواجهة تدمير وسرقة وتزوير الأرشيفات الفلسطينية، التي تحتوي على مئات آلاف الوثائق التاريخية، وفي محاولة ردم الهوة بين من صنعوا التاريخ ومن كتبوا التاريخ؛ تصبح روايات شهود العيان؛ نساء ورجالَا، ممن عاصروا الأحداث التاريخية – إلى جانب المخطوطات والوثائق المكتوبة المحفوظة في المراكز المتخصصة والأرشيفات الفردية والمقتنيات التاريخية التي يجب الحفاظ عليها - مصدرًا هامًا جدًا للتأريخ، وصناعة مصادر تاريخية، يتعامل معها المؤرّخون/ات، تدقيقًا وتصنيفًا ومقارنة وتحليلًا وحفظًا، بالطريقة ذاتها التي يتعاملون بها مع الوثائق المكتوبة، وينتجون منها كتبًا ووثائق ووسائل تربوية وثقافية وفنية متعددة. هي مسؤوليتنا أفرادًا ومؤسسات.
نحن الأرشيف الحيّ الذي لا يموت، نحن من صنعنا تاريخنا بدمنا، وآن الأوان أن نوثِّق ماضينا وحاضرنا بأنفسنا، وأن نصون ذاكرتنا الوطنية الجمعية.