"إني أرى وفؤادي ليس يَكذِبُني روحاً يحفُّ بها الإِكبارُ والعِظَمُ
أرى جلالاً أرى نوراً أرى مَلَكاً أرى مُحَيّاً يحيينا ويَبتَسِمُ".
حافظ إبراهيم
رحل بصمت وسلام، رحل مبتسماً لقرب لقاء الحبيبيْن، الذيْن لم يفارقاه ساعة واحدة.
لم يندمل جرحه مذ رحل ولده الحبيب الأقرب إلى روحه، "فيصل"، ومذ فارقته الشريكة والصديقة والحبيبة، "عصام"/ "أم فيصل"،
عاش وطنياً صادقاً، واقتصادياً متميزاً، وكان إنساناً مثقفاً تقدمياً، شكَّل مثالاً رائعاً للرجل – شريك المرأة، المؤمن بحقوقها. كان الداعم لها، في مجتمع محافظ، لم يتعوَّد بعد على خروج المرأة إلى العمل العام، وخاصة في سن الشباب، حين بدأت الوالدة عملها الاجتماعي، في الاتحاد النسائي في نابلس، بعد زواجها بسنتين. وواصل دعمها بعد أن ازدادت مسؤولياتها، إثر انتخابها رئيسة للاتحاد العام للمرأة الفلسطينة عام 1965، في المؤتمر التأسيسي للاتحاد، في القدس.
كان فخوراً بها. ولم يخف إعجابه بشخصيتها، وكتاباتها، وأدائها. دعمها في عملها الاجتماعي، والسياسي، وكتابتها الأدبية، وخطاباتها، في المحافل الوطنية والعربية والدولية.
"بقيتُ أشجِّع عصام، وأتعاون معها، متحملاً غيابَها أحياناً، حين تكون في مهمة خارج الوطن؛ لأني كنت أعرف أنها تقوم بواجبها الوطني على أفضل وجه. هي كما وصفتها الشاعرة "فدوى طوقان"، حين استهلت كلمتها يوماً بقولها: عصام سيدة القول والفعل. وكنت أحس وهي تلقي خطاباتها وأشعارها، بالفخر الشديد، وبمتعة وفرح لا حدود لهما، وكأنني الذي ألقي الكلمات".
لن أنسى يوماً النقاشات السياسية العميقة، والجلسات الأدبية الممتعة، في بيتنا، في نابلس، ولن أنسى ما كتب وما كتَبَت، وما حفظاه من أشعار، حبَّبتنا بالشعر، وبالأدب العربي، وعلمتنا فنون المناظرة الشعرية.
*****
عاش مع الشعر وللشعر، وتخلل الشعر حياته كلها:
بدأت علاقته بالشعر في سن الخامسة، حين كان يطرب لسماعه من والده، وهو يردده، بصوته الرخيم. كان الحاج "عبد الهادي عبد الهادي" شاعراً وأديباً، يملك مكتبة كبيرة، تحتوي على الكتب الأدبية والقانونية، وكان محامياً، درس في استانبول، وسكن في بيروت، وعمل مستنطقاً فيها.
"يتغلغل الشعر في حواسي، وأطرب لسماعه وترداده. يدخل الشعر تفاصيل حياتي، ولا أتخيل الحياة دون الشعر. حفظت قصائد المتنبي، وبعضاً من شعر "أبي تمام"، و"البحتري"، و"الخنساء"، و"شوقي"، و"حافظ"، و"عبد الرحيم محمود"، و"إبراهيم طوقان"، و"أبي سلمى"، و"الأخطل الصغير"، و"مظفر النواب"، وأحببت شعر "نزار قباني"، و"محمود درويش"، و"فدوى طوقان"، و"توفيق زياد"، و"سميح القاسم"، و"مريد البرغوثي"، و"حيدر محمود".
"الشعر روح الله في شاعره ذلك يوحيه وهذا ينشُرُ
ثلاثةٌ ما عشتُ عاشت للعلا الحبُّ ثم الشعر ثم المِنبَرُ".
*****
منذ طفولتي المبكرة رأيت وسمعت الوالد يمارس قناعاته السياسية والفكرية والإنسانية عملاً وقولاً. كان قومياً ووحدوياً، يتحرَّق لرؤية الوحدة العربية وقد تحققت.
ربطته علاقة متميزة بالشاعر "عبد الرحيم محمود": "تتلمذت على يديه، في كلية النجاح الوطنية، في نابلس، وأحببته شاعراً وقدوة. وكان أستاذي يقدرني حق التقدير. نمت علاقة متميزة بيننا، وصرنا أصدقاء، رغم فارق السن بيننا. نذهب إلى مقهى الهموز، لندخن ونتحدث عن الشعر".
"سمع معظم الناس بالحكمة الخالدة، التي أطلقها "جمال عبد الناصر"، بعد هزيمة 1967: "ما أخذ بالقوة لا يُستردُّ إلاّ بالقوة"، ولكن ما لم يسمع به الكثيرون أن الشاعر الشهيد "عبد الرحيم محمود" سبق إلى هذه المقولة الخالدة، عندما أكَّد في قصيدته "الشعب الباسل":
عَرَفَ الطريقَ لحقِّهِ وَمَشى لهُ الجدد الصَّواب
الحقُّ ليسَ براجِع لِذويهِ إلاّ بالحِراب".
آمن الوالد أن الإنسان العربي رجل وامرأة. ولذا كان أوَّل من رحَّب بالقائد الشهيد "أبو عمار"، حين طرق، مع رفاقه، باب بيتنا في نابلس، طلباً للحديث مع الوالدة، عام 1967، وتكليفها بمسؤولية محددة، ولم يكن يعرف آنذاك شخصية القائد، أو أي من الإخوة رفاقه. روت الوالدة، ضمن شهادتها عن المساهمة السياسية للنساء بعد عام 1967:
"أذكر زيارة الأخ "ياسر عرفات"، لبيتنا في نابلس، عام 1967، حين استقبلت خمسة أشخاص، لا أعرفهم، وبدأ أحدهم بالكلام بثقة، موضِّحاً هدف الزيارة: "أرسلوني من القدس. ووصّوني إنه لا بد أحكي معك. بدينا نشكِّل نفسنا، ونجمع بعضنا، لعمل مقاومة. لو رأيتنا ونحن نتسابق إلى الموت، أينا يظفر به لما عجبت. وهيْنا إجينا. أول ناس بنشوفهم، ونعمل شي مفيد لمحاربة الاحتلال، وللتخفيف من آثاره. قالوا لي: بدنا نجمع مال للمقاومة، وبتعطيهم لعصام عبد الهادي؛ بتسلمهم لروحي الخطيب، أو لعبد الحميد السايح. إجينا إلك لأنك بتمثلي المرأة الفلسطينية.
عرفنا لاحقا، أن البيت كان مطوَّقا من شباب المقاومة، سبع مرات.
قال لي زوجي، بعد خروجهم: "زعيمهم هو الذي تحدَّث". ولم أعرف اسم القائد، إلاّ حين رأينا الصورة لاحقاً في إحدى الصحف الأمريكية".
وحين اعتقلت الوالدة أول مرة، بعد زيارة "ياسر عرفات"، أوائل تموز 1967؛ أجاب الوالد رداً على استجواب الحاكم العسكري الإسرائيلي: إنها تجمع صدقات للفقراء. وأجاب حين لم يصدِّقه الحاكم العسكري، وحاول استفزازه؛ مستفسراً ما إذا كان يقبل استقبال زوجته رجالاً في بيته، عند غيابه: أنا أثق بزوجتي، ولا أتدخل في عملها".
*****
بعد إبعاد الوالدة، وإبعادي، عام 1969 إلى عمان؛ بقي الوالد في نابلس، وكان ممنوعاً من السفر فترة طويلة، ولم يكن يشاهد سوى عابساً، وحين استطاع أن يحصل على تصريح يتيح له السفر إلى الأردن؛ ابتسم على غير العادة، وردَّد:
"ليت ليلايَ نُبِّئت أنني اليومَ جارُها
في بلادي تنقلي وبلادي ديارُها
ما لساقي جَرَرتُها فتعايى انجِرارُها
ولقلبي يقول لي قد تَدانى مَزارُها
كيف لا أَهتدي لِليلى وفي القلب نارُها".
قد تدانى مزارُها، أيها الحبيب الغالي، كما كنت تردد دائماً. كان قلبُكَ المُتعبُ دليلُك،
فمتى يدنو مزارُ الوطن المحرَّر؛ لتتحقق أمنياتُكَ وأمنياتُنا جميعاً؟!
أيها الأب الحنون، والوطني الصادق، والأستاذ المعلِم، والصديق الرائع، والإنسان العادل. سوف يبقى حضورك مشعاً في ذاكرتي، وذاكرة العائلة، والأصدقاء، والمحبين، وسوف تبقى إسهاماتك العملية والمهنية، والوطنية، والإنسانية، محفورة في وجدان شعبك الفلسطيني، وذاكرته الجماعية.