تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

في زمن اللامعقول: الأقلام في مواجهة الرصاص

يتصاعد اللامعقول عبر العالم، حتى نخال أننا امام لوحة سيريالية!
باسم الدين ترتكب المذابح، ويغيب العقل، والمنطق، وينصِّب المتشددون أنفسهم قضاة وجلادين، ليصدروا أحكاماً قاطعة ضد من يعتقدون أنهم كفرة أو مرتدين، ويعملون على إنفاذ أحكامهم بأيديهم، وبأسلحتهم.
وحين يسود الجهل والتعصب وضيق الأفق، وينعدم الحوار والنقاش وتقبل الآخر؛ ينتعش فن السخرية، ويعبر عن نفسه بأشكال سلمية متعددة؛ الأغنية، والموسيقى، والكاريكاتور، والمسرح، والفن التشكيلي، والشعر، والأدب، والنكتة، والقصة.
هذه الفنون التي تغدو وسيلة للنقد المبطن تارة وللنقد العلني تارة أخرى، ووسيلة للتعبير عن المعتقدات والآراء، في وجه محاولة تكميم الأفواه، والسيطرة على المشاعر، ودغدغتها، باسم الدين مرة، وباسم أولي الأمر مرة، وباسم مصلحة الوطن مرات.
*****
رغم أن الهجوم على فناني صحيفة “شارلي إيبدو” (Charlie Hebdo)، كان متوقعاً بعد التهديدات التي تلقوها مراراً وتكراراً؛ إلاّ أنهم واصلوا نشر رسوماتهم الكاريكاتورية، دون أن يكترثوا أو يخضعوا للتهديدات. وعبر عن موقفهم قول رئيس تحرير الصحيفة “ستيفان تشاربونيز”: “أن أموت واقفاً خير من الركوع حياً”.
وإذا كان هدف المهاجمين -الذين نجحوا في قتل اثني عشر مواطناً فرنسياً، بينهم عشر صحافيين، لدى هجومهم على مبنى الصحيفة- إخافة كل من يحاول السخرية من الأديان، والتعبير الحر عن رأيه؛ فقد فشلوا؛ لأن الفرنسيين بشكل عام، والعالم الحر بأسره، أدان الهجوم، بطريقة تعبيرية دالة. رفع أحرار العالم أقلامهم، في مواجهة رصاص الإرهاب، وأعلنوا أن ما حدث لن يرهبهم؛ بل سيجعلهم أكثر إيماناً بضرورة التصدي للإرهاب، بتجلياته، وأكثر إيماناً بفاعلية حرية التعبير.
*****
وكلما تصاعد الإرهاب؛ ابتكر الناس وسائل جديدة تظهر فيها مواقفهم الساخطة والرافضة له، خاصة مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي. وكلما تزايدت مشاهد القتل والذبح، التي تمارسها الدولة الإسلامية في العراق والشام، “داعش”، منذ نيسان 2013؛ كلما انتشرت النكات والأغنيات والرسومات الكاريكاتيرية، التي تسخر من التنظيم، ومن أفكار الجماعات المتشددة، مبينة أن الممارسات الهمجية لهذا التنظيم ليست ممارسات دولة، وليس لها علاقة بالإسلام من قريب أو بعيد.
****
من بين النكات الدالة التي تظهر سطحية أفراد التنظيم، وبعدهم التام عن الإسلام؛ النكتة اللبنانية، التي تظهر أن رجلين من “داعش” اعترضا طريق رجل لبناني وزوجته، وحين طلبا منهما تلاوة آية قرآنية ليثبتا أنهما مسلمين كما ادَّعيا؛ تلا الرجل بعض سطور من الإنجيل، مما يردد في صلواته كمسيحي؛ الأمر الذي أقنع المهاجمين، فأطلقا سراحهما. وحين تساءلت الزوجة عن سر إطلاق سراحهما، خاصة أنهما لم ينجحا في تلاوة سورة من القرآن الكريم؛ أجابها الزوج: “هم لو بيعرفوا تعاليم الإسلام كان عملوا هيك؟”.
وإلى جانب النكتة؛ برزت الأغنية الساخرة في لبنان، مثل “فرقة الراحل الكبير”، التي بيَّنت، من خلال السخرية، التناقض بين تعاليم الدين الإسلامي السمحة، وبين ممارسات الجماعات الإسلامية التي تقتل وتفجِّر باسم الدين:
“مدد مدد يا سيدي أبو بكر البغدادي .. يا حاكم لأمر الله/ يا ناصر بشرع الله/ يا سايق عبد الله على هاوية/ ولا بعدها هاوية.. مدد مدد يا سيدي أبو بكر البغدادي.. وعشان الإسلام رحمة رح ندبح ونوزع لحمة/ وعشان نخفِّف زحمة حنفجَّر في خلق الله.. وعشان لا إكراه في الدين فلنقض عالمرتدين والشيعة والسنيين والنصارى يا خسارة.. وعشان الثورات فتنة وشعور النسوان فتنة أهو كلنا فالحيط فتنا/ ولا دايم غير وجه الله..”.
*****
وفي اليمن انتشرت العديد من النكات، التي تسخر من الميليشيات الحوثية، وانتهاكاتها لحرية التعبير، من خلال اعتدائها على بعض الصحافيين والفنانين والناشطين السياسيين، وفي مواجهة تحريم الغناء، في المناطق التي تسيطر عليها الجماعبة الحوثية؛ انتشرت العديد من الأغنيات التي تحتج على سطوة الحركة المسلحة، مثل أغنية “مال الحوثي ماله”، والتي تقدم موسيقى بديلة للموسيقى الرائجة مثل “الزامل”، والنشيد الديني.
*****
وفي حي “مقديشو الصغيرة”، القريب من نيروبي، استخدمت مجموعة شبابية الموسيقى (وخاصة موسيقى الراب والهيب هوب)، لمحاربة حركة الشباب الصومالية الإسلامية المتشددة، وشكلت فريقاً باسم: “واياها كوسوب”، والتي تعني “عهد جديد”، تهدف إلى نشر رسالة اللاعنف، من خلال تنظيم حفلات غنائية في كينيا والصومال. ألف “شاين علي”، مؤسس الفريق الغنائي، أغنية جديدة، بعد الهجوم على المركز التجاري (Westgate Mall) عام 2013، بعنوان: “لا تنضموا إلى الإرهاب، لا تقتلوا أحداً”، في محاولة لإيضاح أن القرآن الكريم لا يطلب، ولا يقبل، أن يكون القتل وسيلة للوصول إلى الجنة.

*****
الحريات لا تتجزأ،
لنتأمل شهادة الفنان الفلسطيني “سائد كرزون”، التي نشرها على موقع التواصل الاجتماعي: فيس بوك (face book)، حول مقتل: Michel Renaud، الصحافي والمحرر الزائر لصحيفة “شارلي إيبدو”، والذي عرف بموقفه الداعم لفلسطين:
“خبر محزن جداً على الصبح: وصلتني رسالة من فرنسا اليوم الصبح بتخبرني إنه واحد من الشخصيات الصديقة واللي بحترمها: مايكل رينارد؛ قتل في أحداث أمس! خبر بشع جداً. هذا الرجل زار فلسطين في 2008، والتقيت فيه. كان بحب فلسطين بطريقة رائعة. ضل يشتغل وقت طويل جداً جداً وباهتمام خرافي، لحتى قام بدعوتي لإقامة معرضي “فلسطين جميلة” في فرنسا في (Biennale du carnet de voyage de Clermont-Ferrand) في نوفمبر 2009. هذا الرجل كان مؤمناً بالقضية الفلسطينية وفيي، ما بعرف شو سبب هذه الواقعة! كانت مؤامرة أو فعل حقيقي، أو شو ما كان، المحزن قتل هذه النفس البريئة والطيبة!”.

*****
في رد فعل بسيط وبليغ وعميق على الهجوم المسلح، الذي طال رسامي كاريكاتير “شارلي أبيدو” في فرنسا يوم 7 كانون الثاني 2015؛ أشهر الفرنسيون أقلامهم، واعتبروا أن الهجوم على الصحافة هو هجوم على الحرية. “هذا بلد فولتر وزولا، علينا أن نناضل من أجل حرية التعبير”.
ورفعت بعض مدارس الأطفال المسلمة أوراقاً كتب عليها: “ليس باسمي”، كما تم تداول هذه العبارة منذ ساعة الهجوم، من قبل آلاف المتظاهرين في فرنسا والعالم، وأعلنوا: “لقد أرادوا قتل شارلي أبيدو؛ لكنهم جعلوها خالدة”.

نشرت تحت: ظاهرة ثقافية/ يوم 12 كانون الثاني 2015، على صفحات الأيام