“لازم نوثِّق حياتهم حتى لو قالوا جملة واحدة”
أدركت الشعوب العربية أهمية توثيق اللحظة التاريخية، منذ انطلاق ربيع الثورات العربية،
وأحسَّت بخطورة الصوت والصورة والتواصل والتشبيك، عبر وسائل الاتصال الحديثة؛ بعد أن استطاعت تحقيق انتصارات ملموسة، ألهمت الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج.
شاركت النساء العربيات في الثورات العربية، بحماس شديد، بعد أن كان قد لوحظ فتور في مشاركتهن السياسية، وتراجع في حجم المشاركة في مواقع صنع القرار، تأكَّد من خلال التقرير السنوي لعام 2010، الذي أصدرته مؤسسة المرأة العربية، والذي رصد واقع مشاركة المرأة العربية في الحياة السياسية والاقتصادية، ورصد التطورات في كل بلد عربي على حده.
وقد تبيَّنت العوامل التي تحفِّز النساء للمشاركة السياسية الواسعة، وتبيَّنت أولوياتهن، بشكل عملي، حين ربطن بين نيل الحرية، وتحقيق الديمقراطية، والعدالة الاجتماعية؛ من أجل أن ينعمن بالأمان الإنساني.
*****
عند حصر أسماء شهداء ثورة 25 يناير 2011؛ ذكر اسم عروس الإسكندرية “أميرة”، دون أن يذكر اسمها كاملاً ودون أن يرصد سبب استشهادها بدقة. كل ما وصل إلينا أنها طالبة صغيرة، لا علاقة لها بالسياسة، قتلت بواسطة قناص، بينما كانت تقف على شرفة منزلها، أثناء مشاهدتها مظاهرة شعبية ضد النظام، يوم “جمعة الغضب”.
وحتى لا تتحوَّل الشهيدات والشهداء إلى أرقام، وضمن المشروع، الذي بادرت إليه “مؤسسة الرواة للدراسات والأبحاث”، الذي يهدف إلى توثيق حياة شهيدات الثورات العربية/ شهيدات الثورة الشعبية المصرية 25 يناير 2011؛ تمكنتُ من رصد حياة الشهيدة، وملامح شخصيتها، من خلال اللقاء الذي أجرته الباحثة نهال نصر الدين/ مؤسسة الرواة، مع والدتها: “غادة علي عبد العاطي”، التي كشفت عن أمنيات ابنتها، التي وأدها النظام الديكتاتوري في مهدها، كما كشفت عن مشاركة نسوية مميَّزة، في الثورة المصرية، الممتدة من 25 يناير حتى الآن.
*****
ولدت “أميرة سمير شحاتة” في الإسكندرية، عام 1994م، واستشهدت يوم 28 يناير 2011.
كانت طالبة متفوقة، طموحها أن تصبح مهندسة أو دكتورة. تميَّزت بخفة الظل، والمرح، وفي الوقت ذ اته بالجدية. شاركت في نشاطات رياضية، ودينية، واجتماعية عديدة؛ مما جعلها تحصل على شهادات تقدير، في الدراسة، وفي الكرة الطائرة، والكاراتيه.
ورغم أن أميرة لم تكن تشاهد الأخبار، ولم تركِّز سوى على دراستها، كما جاء على لسان والدتها: “من درسها للبيت، متعرفش أي حاجة”؛ إلاّ أن شهادة الوالدة، تكشف عن نشاط أميرة السياسي العفوي، قبل استشهادها بدقائق:
“بنتي قبل الموت بدقايق كانت كاتبة ورقة: “لا للحكومة الاستبدادية”، “لا للنظام الفاسد”، كلمة كتبتها وهى قاعدة على المكتب قبل الدرس، لما شافت الشبان بيقعوا كلهم في الشارع”.
كما تكشف كتابات أميرة، – التي حصلت والدتها عليها من المدرسة، بعد استشهادها- عن روح وطنية عالية، واستعداد عالٍ للتضحية:
“آخر موضوع تعبير كتبته قالت فيه: “أنا ممكن أقدِّم روحى فدا بلدي”.
*****
من خلال شهادتها، تبيِّن غادة، أن ابنتها، وإن كانت تحضر درساً في بيت صاحبتها، في العمارة المجاورة، يوم 28 يناير؛ إلاّ أنها كانت تحاول توثيق ما يحدث في الشارع، عبر هاتفها المحمول؛ الأمر الذي عرّضها لرصاص قناص، كان يطلق النار على أهداف معينة، داخل البيوت وخارجها.
“كانت واقفة بتصوِّر، في نص الصالة، ما كانتش في البلكونة، وممكن يكون هو شافها (القناص) وموَّتها؛ لأن (الرصاصة) جاية في القلب، وهم ممكن يكونوا لمحوها بتصوِّر بالموبايل بتاعها. وقعت قالت: آي مرّة واحدة، (قتلوني). ضباط واقفين كلهم فوق القسم، في الدور الرابع؛ علشان يطولوا كل الشارع, بيرهبوا الناس في البيوت، وفي البلكونات، بيطلقوا عليهم النار؛ علشان ما ينزلوش يتكاتفوا مع اللي في الشارع”.
كما تكشف شهادتها، عن قتل وحشي للمتظاهرين، وعن دور سياسي عفوي للنساء:
“يوم 28 سمعنا صوت نار ورشاشات جامدة، وبنبصّ فوق سطح القسم، الضابط “وائل الكومي” بيجرى ورا شبان، عمّالين يقولوا: “يرحل حسنى مبارك”، مش عايزينه، وعايزين حياتنا، عايزين نشتغل، فقام أطلق عليهم الرصاص، والقنابل المسيلة للدموع، والمطاطي، بقى كله شغال في وقت واحد، وبقيت أنا أصرخ من البلكونة، عايزة أنقذهم، وكل ما حد ينقذ حدّ ويشدّه؛ يدّوله طلقة في دماغه. وبقيت قاعده هنا بنقذ الشبان من البلكونة، وعماله أحدف ليهم ميّه وبصل عشان يفوّقهم”.
*****
كيف يمكن أن تبرد نار قلب أم، بعد مقتل ابنتها؟ وهل يمكن ان يهدأ لها بال، قبل محاكمة القتلة”؟ تعبِّر غادة عن مشاعره أبلغ تعبير، حين تقول:
“أنا بنتي لو مجاش حقها؛ يعني أنا هموّت نفسي”. وتجيب عن التساؤل حول القصاص الذي تجده عادلاً، بحق القتلة:
“يعدموهم، يحققوا معاهم، مع ضباط قسم رمل ثاني، يحققوا معاهم، ويموِّتوا المتسبب في موت بنتي، يموت اللي تسبب وقال: أطلق الرصاص”.
*****
تتحدّث غادة عبد العاطي باسمها، وباسم أهالي شهداء الإسكندرية، الذين أحسوا بالغدر لأنهم لم يحصلوا على أي حق من حقوق أولادهم، بالإضافة إلى إحساسهم بالمرارة بسبب إهمال شهداء الإسكندرية على وجه الخصوص: “لم نحصل على أي حق من حقوق الولاد! شهداء الإسكندرية. وبعدين فيه نقطة تانية، في القاهرة بدأوا يكتبوا الشوارع بأسماء الشهدا، و المدارس. هنا بقي محدّش مهتم بشهداء الاسكندريه خالص، محدّش مهتم! يعني ولا شارع اتكتب باسم حد! يعني هنا الناس والأهالي عايزين يكتبوا الشارع بإسمها، أو مدرستها إيزيس، أو مستشفى “سوزان مبارك”. هنا شالوا إسم “سوزان مبارك”، وقالوا: أكتبوها الشهيدة أميرة؛ لكن مفيش حد بيسأل ولا حدّ بيتكلم! حتى مفيش حق في أي حاجة!”.
*****
“أميرة سمير شحاتة”، عروس الإسكندرية،
تحققت أمنيتك، وافتديتِ وطنك بروحك. وإذا كانت رصاصة الغدر قد طالت قلبك الصغير، وأوقفت يدك عن توثيق لحظات الثورة العظيمة؛ فإن شقيقاتك وأشقاءك، من المحيط إلى الخليج، سوف يبقون أوفياء لكِ ولشهداء الثورات العربية كافّة، ولن يقبلوا بأقل من إسقاط كل أشكال الديكتاتورية، وتحقيق العدالة، ومعانقة الحرية.