ولما كان اليوم التاسع للاجتياح الإسرائيلي الهمجيّ، لمناطق السلطة الوطنية الفلسطينية، ومساء يوم الجمعة، الثاني عشر من نيسان، من العام ألفين واثنين ميلادية، وفي التاسع والعشرين من محرم، من العام ألف وأربعمائة وثلاثة وعشرين هجرية؛ وبعد أن اجتاحت قوات الاحتلال الإسرائيلي مدينة نابلس، من مداخلها جميعاً، بأكثر من أربعمائة وخمسين آلية عسكرية، وأعلنت حظر التجول على المدينة لمدة اثنين وعشرين يوماً؛ حدثتني سابية الخطيب قالت، حدثتني الصيدلانية الشابة تهاني الشعار، ابنة جبل النار، التي تعمل في مستشفى رفيديا، عن أيام الاجتياح التي عاشتها مع أهل مدينتها، حين أغلق الجيش الإسرائيلي نابلس كلها، لتصبح منطقة عسكرية بأسرها، وأحاط المنطقة بالدبابات، ولم يسمح لكائن حي بالحركة حتى سيارات الإسعاف.
حدّثتني عن معاناة جميع أهل البلد؛ الشاب والشيخ والولد، وعن مضاعفة همّ النساء، بعد أن لم يكتف الجيش الإسرائيلي باحتلال وحصار المدينة؛ بل اعتدى على خصوصيات البيوت؛ إما باحتلالها، أو بحصارها، أو تخريبها وتكسيرها، أو هدمها، أو قطع إمدادات الماء والكهرباء عنها.
ولم يكتف المحتلّ بذلك يا سادة يا كرام؛ استخدم المرأة كدرع بشري، ومنع الحامل من الوصول إلى المستشفى؛ فولدت بعض النساء على الحواجز العسكرية، ومات عدد من الأطفال، وأصيبت الأمهات بمشاكل صحية ونفسية.
روت تهاني الشعار، والألم يعتصرها، والحزن يمزّقها؛ عن اليوم الذي جاءها فيه المخاض، حين مات ابنها، بعد ساعات معدودة من ولادتها. أحست بالخوف والتوتر بعد أن أعلن جيش الاحتلال أن منطقة سكنها هي منطقة عسكرية مغلقة، ومنع دخول أي سيارة إسعاف. كانت حاملاً في الشهر السابع، وعمر جنينها اثنان وثلاثون أسبوعاً. أحستّ بأنها في حالة ولادة مبكرة؛ بسبب الرعب الذي شهدته، والخوف الذي عاشته، كانت طلقات النار والانفجارات تدوّي في أذنيها، ومنظر الجثث التي كانت تنهشها الكلاب تقضّ مضجعها، وصورة الشاب الذي قتله الجيش بعد أن أطلّ من الشباك تخنقها.
بحكم مهنتها ومهنة زوجها؛ كان البيت مهيئاً لاستقبال حالات إسعاف، لكنها لم تتصوّر يوماً أنها يمكن أن تحتاج للإسعاف، في هذه الفترة الزمنية بالذات.
كان وصولها المستشفى من سابع المستحيلات. نسّقت مع الهيئات الطبية في المدينة، مع الهلال ومع الصليب؛ من أجل تأمين الوصول إلى المستشفى. وما إن لبّت سيارة الإسعاف وتحركت؛ انطلقت طلقات نار أوقفتها في مكانها، ومنعت وصولها.
لم تستطع تهاني وزوجها الطبيب إنقاذ الوليد، رغم أن الولادة تمّت في البيت بنجاح، بمساعدة جارتها الطبيبة سلام. احتاج الطفل الأوكسجين، بعد معاناته من صعوبة بالتنفس، بعد ولادته بعدة ساعات. ولم تشفع له حالته الطبية الحرجة، أن يصل إلى المستشفى لتلقي العلاج، رغم الاتصال بالصليب الأحمر، عن طريق مؤسسة إنقاذ الطفل، وبعد محاولة لإجراء تنفس صناعي، استمرّت أربع ساعات. ساءت حالة الطفل الوليد، ثم تدهورت، حتى فارق الحياة.
تساءلت تهاني عن الذنب الذي اقترفه ابنها، حتى يفقد حقه في الحياة؟! اختنقت تهاني بالبكاء، وبين عبراتها
قالت إنها كانت تتمنى أن يلعب في حديقة البيت الخميلة، بدل أن ينام بين أزهارها الجميلة.
لم يسلب الجيش الإسرائيلي الفلسطينيين الحق في الحياة فقط أيها الأفاضل؛ بل سلبهم حقهم بالموت الكريم. لم تكن تهاني وحدها من دفنت ابنها في ساحة الدار؛ دفن أهالي البلد بعض الشهداء في حدائق بيوتهم، والعديد في قبور جماعية في ساحات المستشفيات.
أما عن خسائر المدينة؛ بلغني أيها الجمهور السعيد ذو الرأي الرشيد أن الغزاة قتلوا خمسة وتسعين من المدنيين، وجرحوا خمسة ومئة وثمانين، واعتقلوا ألفين، وهدموا واحداً وتسعين منزلاً بشكل كلي، وأربعة وستين منزلاً بشكل جزئي، منها منازل في البلدة القديمة ذات أهمية تراثية، وصبانات عريقة تاريخية، ساهمت اليونيسكو جزئياً في ترميمها.
استهدف جيش الاحتلال مدارس البلدة القديمة؛ قصف بعضها بواسطة الجرافات، وقذائف الدبابات، كما حدث مع مدرسة الفاطمية، التي كانت تدعى الرشيدية.
جرّفوا وخرّبوا الشوارع والأرصفة، ودمّروا شبكات المياه والكهرباء والاتصالات، كما دمّروا مبنى المحافظة، والأجهزة الأمنية، والمؤسسات الوزارية، ومتحف القصبة التاريخي، واعتدوا على عدد من المساجد والكنائس، وقصفوا المحال التجارية، وقاعة الاستحمام بالحمامات التركية،
وووووووووو أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام الجراح.