"تكسرت النصال على النصال"، وأبى العام الماضي إلاّ أن يكمل مصائبه، فيفجعنا بفقدان الأب والأخ والصديق والمعلم: الأستاذ الدكتور أحمد صدقي الدجاني.
حين تحضر الدماثة والرقة والنزاهة يحضر أبو الطيب، وحين تحضر الصلابة المبدئية والثبات على الموقف يحضر أبو الطيب. وحين يغيب استخدام العقل والمنطق وتصبح الحاجة ملحة للحوار الموضوعي الهادئ يطل أبو الطيب.
آمن بحق الإنسان في الاختلاف، ولم يؤمن بذلك فقط؛ بل مارس هذا الإيمان بشكل فذ. كان مدرسة في القدرة على ضبط النفس في مواجهة الرأي الآخر. لم يصم من اختلف معهم سياسياً بالخيانة، ولم ينعت من اختلف معهم فكرياً بالعمالة للأجنبي، ولم يهرب من الحوار والنقاش تحت أي مسمى. اختار أن يخلص للكتابة والفكر القومي والبحثي، وأن يبتعد عن العمل السياسي بشكله المباشر؛ لكنه بقي في قلب العمل السياسي بشكله غير المباشر.
أثبت خطأ المقولة الاستعمارية المتعلقة بالثقافة العربية، التي يتبناها بعض أبناء الشعوب المستعمَرة، تلك الفكرة التي تنفي صفة التجدد والحيوية عن الثقافة العربية، وتصفها بالجمود والتحجر. شكل ريادة ونموذجاً لالتقاء التراث بالمعاصرة؛ حيث الأصالة التي لا تنفي المعاصرة، وحيث يمكن الاتجاه نحو الحداثة، والأخذ بسبل العلوم الحديثة والتطور؛ دون التنكر للتاريخ الثقافي والتراث. تحدث عن تكامل الدوائر الثلاث: المحلية والعربية والعالمية، وفرق ما بين العالمية والعولمة؛ فرق ما بين التفاعل والحوار ما بين الشعوب حيث التوجه إلى العالمية الإنسانية، وبين الهيمنة والتسلط والقمع الذي تمارسه الدول العظمى على الشعوب المستضعفة حيث التوجه الاستعماري إلى العولمة.
كان مجاملاً استثنائياً، ومبدئياً استثنائياً في الوقت نفسه. قلما رأينا في حياتنا السياسية من استطاع الجمع ما بين الأضداد ظاهرياً. وفي الوقت الذي يلجأ فيه الكثير من قياداتنا السياسية- نساء ورجالاً- إلى التفنن في استخدام درجات الصوت المرتفعة، ومخاطبة العواطف، وتأجيج المشاعر؛ يخاطبنا أبو الطيب بصوته الهادىء الواثق الذي يعتمد على المنطق، ومخاطبة العقل، وإعمال الفكر.
وإذا كان تقدم الإنسان يقاس بمدى تقدم موقفه من المرأة؛ فإن أبا الطيب كان مفكراً تقدمياً تنويرياً بامتياز. لم يؤمن فقط بتقدم المرأة؛ بل مارس ذلك في حياته الخاصة وبين طلابه وزملائه وأصدقائه. اعتز بزوجه أم الطيب اعتزازاً كبيراً، فكانت رفيقة دربه وصديقته وأم البنين – كما كان يحلو له أن يناديها – واعتز ببناته بالدرجة التي اعتز فيها بأولاده، وأقام علاقة صداقة جميلة بينه وبينهم. لم يكن متزمتاً، كان عاشقاً للموسيقا بشكل عام، وللموسيقا العربية بشكل خاص. كان منفتحاً على الثقافات المتنوعة، ومتمسكاً بروح الثقافة العربية الإسلامية في الوقت نفسه.
كان أبو الطيب صديقاً مخلصاً لقضايا المرأة، لم يكن يتأخر عن مد العون الاستشاري لاتحاد المرأة الفلسطينية في القاهرة؛ عند التخطيط لأية فعالية فكرية، وكان حاضراً في معظم فعاليات الاتحاد الثقافية والسياسية. كان لا يفتأ يثني على دور المرأة السياسي والوطني والثقافي، ويعلي من شأن مشاركة المرأة في شؤون العمل السياسي والنقابي والثقافي والإعلامي.
فلسطينياً، حلم د. أحمد صدقي الدجاني، بالعودة إلى دولة مستقلة. وعربياً، حلم بنهضة عربية، ووحدة قومية، وديموقراطية واحترام حقوق الإنسان. وإسلامياً، حلم ببناء حضارة عربية إسلامية، وعالمياً اهتم بالحوار مع الآخر. وبذر أفكاره في كتبه ومقالاته ودراساته ومحاضراته. ولم يكتف بالكتابة؛ بل قرن الفكر بالعمل: أسهم في تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية العام 1964م، وأسهم في تأسيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان أواسط الثمانينات، كما لعب دوراً رئيساً في تأسيس المؤتمر القومي العربي بداية التسعينات، بالإضافة إلى عضويته الفاعلة في الأكاديمية الملكية المغربية، وفي منتدى الفكر العربي، ومؤسسة الفكر العربي، وتمثيله لفلسطين في وحدة الحوار العربي- الأوروبي. كما كان ممن ساهموا في تأسيس المؤتمر القومي الإسلامي العام 1994. هذا بالإضافة إلى موقعه الأساس في المجلس الوطني الفلسطيني، والمجلس المركزي الفلسطيني، ورئاسته للمجلس الأعلى للثقافة والتربية والعلوم في منظمة التحرير الفلسطينية، على مدى عقدين من الزمان.
أما عضويته في مجمع اللغة العربية في القاهرة؛ فكانت الصفة المحببة إلى قلبه، فقد عشق صفة "المجمعي"، كما عشق اللغة العربية، واصطحبها في حله وترحاله، وفي حياته اليومية؛ وفي جميع المناسبات العامة والخاصة.
لن أنسى يا أبا الطيب تقليد الكنافة النابلسية، الذي كنت تصر على تقديمه للطلبة الفلسطينيين، الذين يتخرجون من الجامعات المصرية، وخاصة طلبة الدراسات العليا: حملة الماجستير والدكتوراه؛ إيماناً بأهمية العلم والتعلّم، لن أنسى إصرارك على لقب دكتورة بعد مناقشتي لرسالة الدكتوراة في الأدب العربي، التي شرفتني بحضورها. حين سألتك: لم الإصرار على اللقب؟ أجبت: حتى يتعود الناس على التخاطب باللقب العلمي، وخاصة بالنسبة للنساء، فهذا هو اللقب الوحيد الذي يجب أن يصر الإنسان عليه؛ لأنه لقب علمي وليس تشريفيا.
لن أنسى أبا الطيب وقفتك المميزة يوم احتفالك بزواج إحدى بناتك؛ حين تحدثت حديثاً جميلاً حميماً عن الزواج والتآلف والمودة والرحمة ما بين الأزواج، تحدثت بما هو غير مألوف في مثل هذه المناسبات، فكنت مجدداً ومبدعاً. كنت أنتظر حديثاً مماثلاً منك في احتفال عائلتي بزواج ابني الأكبر الشهر المقبل؛ لكن الموت غيبك؛ فاختطفك من أسرتك وأصدقائك وأحبائك وزملائك.
توحدت أبا الطيب باللغة العربية؛ في الوقت الذي توحدت فيه بشعبك، والشعوب العربية الحرة؛ فكنت البحر الذي يحتوي الدرّ كما اللغة:
"أنا البحر في أحشائه الدر كامن فهل سألوا الغواص عن صدفاتي"