تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

مجزرة نابلس والانتصار لدماء الشهداء

"يفهم الجميع ألم الموت/ لكن الألم الحقيقي ليس في الروح/ ليس في الجو وليس في حياتنا/ ولا في هذه الشرفات المملوءة بالدخان/ الألم الحقيقي الذي يبقي الأشياء مستيقظة/ هو حرق صغير أبدي".  فيديريكو جارثيا لوركا

نعم، الألم الحقيقي باق ومستيقظ. الألم باق ما دام الاحتلال الاستعماري الصهيوني العنصري يسوِّر فلسطين من النهر إلى البحر، وما دام يواصل مخطط التطهير العرقي، ويرتكب المجزرة تلو المجزرة، ويمدّ أنيابه الحديدية في خاصرة الوطن شبراً شبراً؛ ليقتلع ويهدم ويدمّر ويضمّ ويعربد طولاً وعرضاً.

كما أن الألم الحقيقي باق ما لم يكن هناك طبيب يشخّص الداء بدقة وعمق، ويصف الدواء لا المسكِّنات، ويقترح حلولاً جذرية لا أنصاف أو أرباع حلول.

وما أوجعنا أمس؛ هو الذي يوجعنا اليوم. وما كنا نخشاه أمس؛ ما زلنا نخشاه اليوم.

*****

أوجعتنا حتى العظم مجزرة نابلس، التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي، يوم 22 شباط 2023، ومجزرة حوارة، التي ارتكبها المستوطنون الإسرائيليون، يوم 26 من الشهر ذاته، وأوجعتنا أكثر الصفقة التي عقدتها القيادة السياسية للسلطة الفلسطينية، مع المحتلّ الصهيوني، بوساطة أمريكية؛ لسحب مشروع قرار يدين الاستيطان في مجلس الأمن الدولي، مقابل وعد بتجميد بناء وحدات استيطانية لبضعة أشهر، والموافقة على عدة خطوات اقتصادية، من شأنها زيادة عائدات الضرائب الفلسطينية بأكثر من 50 مليون دولار سنوياً، ووعد بتخفيف التوترات في الضفة الغربية، وتعليق هدم منازل الفلسطينيين لبضعة أشهر، ومنع تصعيد أمني واسع في الضفة والقدس المحتلتين.

وعوضاً عن مشروع قرار الإدانة الذي تمّ سحبه؛ أصدر مجلس الأمن بياناً هزيلاً؛ اكتفى بإبداء القلق لاستمرار الاستيطان، ولم يدع بصراحة وحزم لوقفه، ولم يسجّل إدانة له باعتباره انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي؛ مما يشكّل ضربة موجعة لنضالات شعبنا السياسية، ويوفِّر مظلة لاستمرار سياسة الاستيطان والضمّ الإسرائيلي، كما يفقد السلطة الفلسطينية الكثير من مصداقيتها في الشارع الفلسطيني.

أيّ ثمن يدفعه الشعب الفلسطيني! أي ثمن!

*****

ما الذي تقوله مجزرة نابلس؟ ومجزرة حوارة؟ وما الذي يقوله قرار نقل الصلاحيات إلى سموتريتش في الضفة الغربية؟ والقرارات العنصرية الإسرائيلية المتتالية، التي أقرّها الكنيست، وآخرها قرار سحب المواطنة والإقامة من أسرى الداخل، والقدس، ثم المصادقة على قرار منع الدواء عن الأسرى المرضى؛ الذين أعلنوا العصيان داخل السجون.

وما الذي تعنيه الاعتقالات، والاقتحامات، والإعدامات الميدانية، وهدم البيوت، بالإضافة إلى اعتداءات المستوطنين، التي لم تتوقف يوماً، على قرى ومدن ومخيمات جنين ونابلس ورام الله وبيت لحم والخليل وأريحا، وهي المناطق الخاضعة لسيطرة السلطة الفلسطينية؟

ما تقوله المجزرتان بشكل واضح لا لبس فيه: إذا لم يكترث الإسرائيليون بأي اتفاق، حتى لو كان الوسيط أمريكياً، فكيف يمكن للشعب الفلسطيني الاعتماد على وساطة أو وعود أمريكية؟!

لا اعتماد سوى على الذات؛ على الصمود والمقاومة بأشكالها كافة. هذا ما أعلنه أبناء الشعب الفلسطيني بوضوح، بعد مجزرة نابلس؛ حين لبوا النداء الذي أطلقته مجموعة "عرين الأسود"، وخرجوا إلى الشوارع والميادين الرئيسة في مدن الضفة والقدس وقطاع غزة، ومخيمات الوطن، في منتصف الليل؛ ليهتفوا للمقاومة وللشهداء والأسرى، وليعلنوا أنه لا يمكن الرهان على الإدارة الأمريكية لأنها شريك أساسي للعدو الصهيوني. ويؤكّدوا أن خيارهم هو خيار المقاومة.

*****

"زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً..أبشر بطول سلامة يا مربع".

كيف يكون الانتصار لدماء الشهداء؟ عبر بيانات الشجب والإدانة؟ التهديد بملاحقة إسرائيل في المؤسسات الدولية ومحكمة الجنايات؟ هل ننتصر لدمائهم بالتراجع عن سحب مشروع قرار إدانة الاستيطان، والتوجه ثانية إلى مجلس الأمن لطلب التصويت عليه؟ أو بمقاطعة الاجتماع الأمني الخماسي، في العقبة، يوم 26 شباط، 2023؟ ثم المشاركة فيه حال انعقاده، أملاً بوقف جميع الأعمال الأحادية الإسرائيلية، وتمهيدًا لخلق أفق سياسي؟! أي أمل؟! وأي أفق سياسي؟!

أعلنت جماهير شعبنا، قبل أن تعلن معظم فصائل العمل السياسي، وقوى الشعب الحيّة؛ أن الانتصار للشهداء لن يكون عبر بيانات الإدانة البائسة، أو بالتهديد والتلويح بالملاحقة والمحاكمة؛ ولا بالإعلان عن وقف التنسيق الأمني؛ بل بالوقف الفعلي لهذا التنسيق، والتوجه رأساً إلى محكمة الجنايات الدولية لمقاضاة إسرائيل على جرائمها المستمرة، والاعتذار العلني للشعب الفلسطيني عن سحب مشروع قرار إدانة الاستيطان، وإعادة تقديمه إلى مجلس الأمن، وطلب الحماية للشعب الفلسطيني. هذا قد يكون أقل الواجب؛ أما أقصاه؛ فيكون بتغيير قواعد اللعبة كلها، والانتقال بالصراع إلى مرحلة جديدة، تلبّي تطلعات الجماهير المنتفضة، وتستجيب لتحديات المرحلة.

*****

مثلما نحتاج الفعل المقاوِم بأشكاله؛ نحتاج أن نحافظ ونحمي زهرة شبابنا؛ كي يستطيع الشعب بأكمله خوض معركة التحرير حتى النصر.

وحتى يتمكن من الاستمرار والصمود والمقاومة؛ يحتاج قيادة منتخبة ديمقراطياً؛ تراجع مسيرة الكفاح الوطني الفلسطيني، وتقدّم رؤية مستقبلية، لمشروع وطني تحرري فلسطيني، وتخطط استراتيجياً، دون أن تغفل الاستجابة لتحديات الواقع.

كما نحتاج إلى تحالفات عربية ودولية متينة؛ تساهم في فضح عنصرية الاحتلال، وطبيعته الاستعمارية الاستيطانية، ولا تسمح له أن يفلت من العقاب.